يستيقظ
باكرا ويذهب لأجل التصويت في انتخابات كان يدعو لمقاطعتها، وحين تلتقيه متورطا
بشكل مفضوح لا يستطيع إنكار الأمر، طبعا أنت لن تستطيع ان تحرجه أكثر مما هو فيه،
لكن لسبب ما هو يريد أن يمنح انطباعا ما، خروجا مريحا من الورطة...
تسأله
عن حركته بشكل يتيح إخراجا له من اضطرابه، تسأله بما يتيح له هروبا مريحا:
ــ
من أين...؟، تقصد من أين
أتيت، بشكل يستطيع أن يقول بأنه تناول كأس بن في المقهى، لكن عالمه المضطرب لا
يتيح له تلك الليونة الجميلة في التلاعب
بالأجوبة، لا تتيح له نفس تلك البلاغة السياسية التي كان بها يحرض على المقاطعة،
يجيبك بشيء من الصرامة:
ــ
قمنا بالواجب الوطني...
الآن،
المقاطعة أصبحت شيئا مما يضاد الواجب الوطني؟؟، يعني الأمر شيئا من هذا القبيل، لا..؟ لكن هذه "ال"واجب الوطني، هذا التعبير الجميل على
الشيزوفرينيا الوطنية، ردة الفعل حول شيء لم تسأل عنه، هو أغرب ما يثيرني في مواقف
رفاق كان لهم تاريخ خطابي في حياتهم (أقصد
كانوا يخطبون كثيرا في الجماهير... يرتلون
اللغة أكثر ) أحيانا تشبه يقظة
ضمير، لكن بشكل مقلوب تماما، "
الواجب
الوطني" هذه، جميلة الوقع
في الأذان الطيعة جدا، مشحونة اكثر بعنف السلطة، بشكل تبدو عفويتها في ردة فعل
صاحبنا قمع بشكل ما، معنى أن الموقف الآخر، المقاطعة، هي تضاد وخيانة للوطن، مع ان الأمر من خلال الرد،
بشكل توريطي بالفعل لا يثير هذه القراءة المستنتجة للقمع.. بل كانت نوعا من الاستجداء، نوعا من
إظهار الرضى على النفس أو طلب الرضى عنه على فعلته، كأن تقول له مثل تلك القولة
الجميلة التي نرددها دائما في المواقف المناقضة:
"هذا
موقفك ورأيك، أختلف معك لكني أحترمه "...
طز
للموقف التبريري هذا، قلب الفيستا كما نقول في المغرب في موقف سياسي يحترف
التهذيب، بشكل يكون التهذيب عملية ضرب في الصفر لكل التجربة النضالية لشخص معين... تقترن هذه الحالة بصديق مدمن على
الخمر، في حالة السكر والثمالة يعلنها ثورة ضد النظام، يقذف الدولة بكل النعوت
الرديئة، الملك المخزن، وكل المؤسسات القائمة، يمر بنقطة مرور فيها رجال الأمن فيبدأ
في استفزازهم، يهادنه احدهم لأنه زميل له: «فلان
إنك سكران وفي حالة يرثى لها، عليك بالذهاب إلى منزلك قبل أن يقع لك ما لا تحمده »، يتمادى في السب والذم، ولما يتحسس أن رجال الدرك جادون معه،
حيث بدأوا يقتادونه إلى المخفر ويفتون عليه خروقاته الجميلة: "السكر العلني والمس بالمقدسات"، غير من لهجة ذمه إلى التعبير بأنه
مواطن غر تافه حيث في المخفر وبشكل جنوني بدأ يجذب ويستغفر: «عاش الملك.! عاش الجدارمية...!». هو التحول في اللحظة ذاتها من مدين
للنظام إلى ممجد له وأنظمته القمعية في السكر شبيه إلى حد ما من التحول من موقع
المقاطعة للتصويت إلى موقف التصويت ك"واجب
وطني" رغم الشق العميق في
الأمرين، إلا أنه يعني بالتحليل حالة مرضية شيزوفرينية مزمنة ومستعصية على العلاج
تظهر بشكل رائع في شخصية ثملة دخلت إلى عالم السياسة والسلطة في لحظة الولوج إلى
عالم الغباء والخروج من عالم الجد والمعقول المملين في حياتنا اليومية، ليصطدم
بعنف السلطة على الرغم من لا معقوليته في عالم السكر، بشكل يبدو عنف السلطة قائما
بالجد مع كل ما يناقضه سواء بسواء.
يبدو
امر ضرب تجربة حياتية كاملة في قائمة الصفر أمر مهذب أيضا، في سياق الواجب الوطني
أيضا، رفيق (والله أعلم على هذا
الأمر، أي أمر أنه رفيق تقدمي...!) كان
في اول مرة أعرفه كمناضل يساري معنا في لجنة للتنسيق حول دعم نضالات عمال مناجم
جبل عوام، وكنت شخصيا ممثلا للعمال في هذه اللجنة، بالنسبة لي كان امر التنسيق هو
فقط طرح أفكار ونقط للعمل حولها، الامر لم يكن يدعوا لدروس حول نضال الجماهير
والطبقة العاملة و...،
تدخل "الرفيق" هذا وطال وجال حول تاريخ النضالات
الجماهيرية وكل ما حفظه حول تاريخ نقابة الاتحاد الوطني لطلبة المغرب بشكل اختلط
فيها الحابل بالنابل، خطاب ممل مضيع للوقت، تحليل يرنوا إلى نوع من التوثيق مغرق
بالمواقف البرجوازية، ينهيه بالمواقف العامة لاتحاد طلبة المغرب، بشكل كان صرد
مواقف هذه النقابة العتيدة الصامدة في ختام تدخله هو ما فهمت شخصيا منه أو أفهمني
على الأقل أنه تقدمي يساري ، يساري بإعلان تلك المواقف فقط... لكن ليست هنا المشكلة، على هامش اللقاء
ينزوي بي احد رفاقه ويسألني ، عما إذا فهمت شيئا من خطاب رفيقه، وحين أخبرته بأني
فهمت المواقف التي ختم بها برغم تناقضها مع الكثير من مضمون خطابه، انسالت في
أعماقه ضحكة صاخبة فجرها على رفاقه الآخرين ليقروا جميعا أنه بالفعل متناقض.. لكن لم أفهم ولا أحد منهم حتى الآن شرح
لماذا شخص خطيب في الترتيل اللغوي يستحق ان يحطّوه في موقع قيادي وهو أمر لا يهمني
البتة (وهذا بالطبع في
أمور اخرى، في الحوار الاجتماعي مثلا مع ممثلي السلطة المهيؤون لإجراء هذه
الحوارات، عمليا يسقطنا في مورطات أخرى نكون في غنى عنها) كما يضعوه في لجنة تنسيقة وهذا ما كان يهمني، ولماذا عليه كل
تلك الهالة من الإفصاح والتبيين...؟
في العمل الخطير، في السياسة عادة، هناك رفاق أذكياء ورفاق مندفعون، رفاق يحرضون
وآخرون ينحرضون (مزرفين
بالمغربية) يدفعونك إلى الأمام
ويكتفون هم بمراقبتك من الخلف، وحين تنجح المعركة يتصدرون بهجة الانتصار كما لو
كانوا قادة المعركة بينما يبقى اسمك أنت المندفع في الظل (يختلف الأمر في حالة الاعتقال، تصبح كلأ لنار التحريض على
أبرياء آخرين، تصبح كمعتقل أُنموذجا وقدوة في اندفاع ضحايا جدد، بينما اعتقالك لا
يعيشه معك بشكل صريح سوى المقربون إليك) لكن
هذه الأمور تبعدنا أكثر من الواجب الوطني ومن لغة التهذيب السياسي، "رفيق"
اللجنة
التنسيقية هذا سيكتشف أمر يساريته في استفتاء شعبي حول دستور ملكي ممنوح، لكن
الخطير في الأمر هو مستواه التبريري، هذا الرفيق لا يجيبك بتلك اللغة التي قلنا
عنها مشحونة بالقمع السياسي، بل يجيبك بأمر آخر، كونه تحت كفالة والده، برغم أنه
ثور حقيقي، والده الأمي ثقافيا وسياسيا يجبره على التصويت في استفتاء شارك في حملة
مقاطعته، بعد يومين من الاستفتاء، يظهر تدريجا بشكل خجول، ثم يبدأ في شرح الأسباب
التي اضطرته للتصويت، بنوع من التخفيف يثير بانه صوت ضد وليس مع.. (جميل جدا مثل هذا التبرير، على الأقل
يضعه في صورة اليسار ظاهريا، وضع ورقة "لا" في التصويت والله أعلم بالطبع) ثم بالتدريج أيضا يبدي نوعا من الواجب نحو والده الذي يكفله
بشكل يضع له اعتبار مقنع: «هددني
بالطرد من المنزل إن لم أصوت» ولأنه
والده وهو يعرف مصلحته من زاوية فهمه، على ابنه أن يمتثل لأوامره... هكذا إذن نخلق التحرر بكرة او غدا، إذا
كان المرء لا يستطيع أن يتحرر من تخلف والده (راعي
السلطة المخزنية في المنزل) وهو
الثور البكر في أسرته الذي حظي بالتعليم، كيف له أن يحرر أخته من براثن التخلف
الاجتماعي، بشكل يبدو عبثا اننا نثير موضوعات المرأة ترفا في الثقافة السياسية.. دعونا من الحديث عن مساواة المرأة،
فالمشكلة أعمق من المساواة... مقابل
عنف السلطة إذن نضع مبرر تهذيبي آخر سلطة مخففة ومقبولة دينيا واجتماعيا يقظة ضمير
أخرى: طاعة الوالدين.
ليست هناك تعليقات :
إرسال تعليق